من التحكم إلى التأثير From Control to Influence

هل تعرف أنّ نماذج التغيير التنظيمي والهيكلة والتخطيط الاستراتيجي مبنية في جملتها على تصوّر سائد من عصر الثورة الصناعية بأن المنظمة هي مكنة كبيرة فيها الكثير من التروس والسيور التي تحتاج إلى هندرة وتنظيم كخط إنتاج محكم وبارع يسمح لها أن تنتظم وتسودها الفعالية والكفاءة العالية؟ هذا النموذج يعتبر الإنسان في المنظمة أداة ويدا مساندة لتحقيق الأهداف التنظيمية. ومشكلة هذا التصوّر أنه يتجاهل أن التحوّل الذي مرّ به الإنسان في الحقبة الحالية والتي تتّسم بعصر التقنية والمعرفيّة. فالمنظّمة المتعلّمة مفهوم سائد منذ سنوات ويعتبر صيحة فيث عالم التطوير التنظيمي، ولكن ما الفائدة منه إذا لم يضع اعتبار للموظف العارف؟

الموظّف العارف يتحدّى كل ما نحاول أن نغيره في السياق ويتصدّر للمقاومة شاءت الاستراتيجيات أم أبت. بل تجده يتحرّك في لعبة الشطرنج مع محدوديته ليصل أثره إلى نهاية اللعبة ويحقّق فيها انتصارات ساحقة. هذه التصوّر الحديث يشرحه كلمان في مقالات عديدة ويركز على شرحه له بأنّه تحدّاه هو في كلّ ما يفكر به في الحقبة الأولى من كتاباته حول النظرية التنظيمي. يتحدث كلمان عن أمواج التأثير الخفية في المنظومة والتي تتلخّص في مالا يراه الآخرين من ثقافة تحكم السلوكيات ، وكيف يتعامل الجميع مع الشبكات المعقدة من المجهول والضبابية والتعقيد في التنبؤ بما يمكن أن يحدث، بل والفوضى التي يمكن أن تلغي كل الخطط والتنبّؤات، كلّ ذلك منبعه الثقافة المحلية في التنظيم. بل إنّ هذه الثقافة هي المصدر للافتراضات قد يبنيها البعض على نماذج أو مفاهيم قديمة عن الحياة في المنظمة، كلّ ذلك يحدث في تفاعل جمعي في مساحة المجموعات والفرق والتي تشكّل حلقة الوصل بين ما يفكّر ويعتقد الافراد وبين الثقافة التنظيمية. كلّ ذلك يشكّل قوة مؤثرة خفية في التنظيم يسميها أمواج خفيّة .

يستقي كلمان مفاهيمه الحديثة من رحلة تامّل في المنظومة الكونية وأهميّة أن ندرك أن هذه المنظومة تعلّمنا ما لا تعلّمنا إياه العلوم المجردة المادية، فيقول نحن في ابسط صورنا ذرة في هذا الكون. ويقول اعتمدت فكرة المنظومة المكنة على أنّ أي جزء يتعطل منها يمكن أن يستبدل وتجاهلت الفكرة أن الإنسان ينمو ويتحوّل ولم يعد أداة فقط، بل هو عنصر التأثير الأساسي في الثقافة التنظيمية. وعادة ما يلجأ القادة الجدد أو القادة فاقدي السيطرة على الوضع التنظيمي إلى إعادة رسم للاستراتيجيات بسبب شعورهم بفقدان التّحكم في العوامل المؤثر (الأمواج) ورغبة منهم في التحكم من جديد كما في عصر الثورة الصناعية ونسيانا بأنّ الكوادر المعرفية عالية التأهيل تتطلب غير ذلك.

لتتمكن من فهم صناعة التموجات عليك أنْ تتقن فنّ التعامل مع مستويات الوعي الإنساني ابتداء بوعيك أنت ثم بوعيك بما يدور في خاطرك وأنت تتواصل مع الآخرين ثم بوعيك بما يحدث بين الناس من حالات وهم يتواصلون أمامك وتلاحظ التفاصيل الدقيقة مثل لغة الجسم ونظرات العين وحركات اليد والرجل والجسم وتقرأ ما لا يقال وتتعرّف على ما يدور بينهم من طبيعة علاقات وتتعلم فوق ذلك كيف تتحدث لهذه العلاقات الخفية وليس للأشخاص بعينهم وكأنّ العلاقة مخلوق يتطلّب منك اهتمام ورعاية بدلا من أنْ تتحدّث لصاحب العلاقة، صحيح صاحب العلاقة جزء منها ومؤثر فيها ولكن هو أيضا متأثر بها ويحتاج أنْ يراها أمامه ليفهمها ويفهم كيف يتعامل معها، مخاطبتك لها في وجوده يخلق عنده تأثر من نوع مختلف وتموج جديد قد يكون هو الفرق في وعي المنظومة. فهذه الآثار الغيبية وهي الموجات لا نراها، ولكن نشعر بها في الأجواء ونشعر بأنّ شخصا ما منسحب أو آخر مندمج.

ثم بعد أنْ نؤسس تلك الموجات الغيبية أو الخفية ونتأكد أنّ الناس في المنظومة قادرين على تبادل الأفكار والآراء بعيدا عن الخوف أو خشية إطلاق الأحكام أو الافتراضات من الآخرين أو في أمان يسمح لهم بأن يشيروا إلى ما يرونه مفيدا أو غير مفيد في المنظومة، تأتي صناعة الاستراتيجية والأنظمة المستندة لتطبيقها. فإذا حاولنا صناعة الاستراتيجية أولا لن يتكلم أحد أو يشير إلى نقص أو أخطار أو ضعف لأن الثقة مفقودة، فما الفائدة من اسقاط استراتيجية لم يشارك فيها إلا النّخبة؟ نحن بذلك نصنع جدارا قويا صلبا بين الاستراتيجية والتنفيذ؟ وما الفائدة من إعادة الهيكلة والناس تفتقر لمصداقية التعامل؟ سينهار التواصل مرة أخرى أو يبقى سطحي التخلل ويشجع الانعزال في الأقسام والمكاتب. وأما فرق العمل فستسودها النزاعات والمنافسات في غياب الموجات الخفية الصحيحة. ثم تأتي عملية التّعلم والتي تتعلق بالدروس المستفادة والتحسين والتطوير ومراجعة الاجراءات، هذه بدورها ستتعثر لغياب الموجات التي تنقلها أو وجود موجات سامة منافسة لها.  باختصار يرى كلمان أنّ الموجات المنافسة ستصطدم بكل المحاولات الإيجابية وسنعود لنقطة الصّفر ونكون تسببنا في هدر الطاقات والأموال في محاولة رأب الصدع لأنّنا لم ننتبه إلا لتصورنا القديم للإصلاح والذي يتمحور حول السلطة والقوة وينسى القوة الثقافية والمعرفية للأفراد والمجموعات في التنظيم.

يتبع لاحقا في اسبوع

.Kilmann, R. H. (2007). Leadership and the Quantum Organization

Shopping cart

0
image/svg+xml

No products in the cart.

Continue Shopping