مكة: الدور العالمي والحاجة للمنهج الإستراتيجي العلمي

لم تكن مكة مجرد مدينة افتدى فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه بكبش فداء ليكون مثلا يضرب في التضحية والإخلاص للخالق فحسب، إنما كانت مهوى لأفئدة الجماعات ومطمحا تنمويا على جميع الأصعدة والجهات في كل ما مضى من الحقب التاريخية. ولتستعيد الدور الذي كانت تتصدره لابد من يقظة محلية مدعومة بتقييم شامل ودقيق للساحة العالمية وما فيها من مستجدات وربط ذلك بالوضع الحالي المحلي.

د. غادةعنقاوي

إن رسم خطة إستراتيجية لاستعادة الدور الرائد لن يكون بمنأى عن الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية. إن أي محاولة لرسم خطط وسياسيات تنموية بدون العمق التحليلي البحثي ستكون معرضة للمخاطر غير المتوقعة وستتسم بالتخبط العشوائي الذي تعانيه مكة حاليا من الجانب العمراني والذي يتعرض للنقد العالمي من المؤرخين والكتاب والباحثين العالميين المسلمين وغيرالمسلمين. ما أحاول أن أبرزه في مقالي هذا هو ضرورة انتهاج المنهج العلمي البحثي في وضع الخطط الإستراتيجية والتي تعنى بإحداث التغيير الجذري في البنية التحتية العمرانية والاجتماعية والدينية ويتبعها الاقتصادية والتي تنعكس بدورها على السياسات المحلية والعالمية ويتأثر بها كل مسلم مهما بعد مكانه شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. فالكرة الأرضية أصبحت قرية واحدة يحيى فيها الناس مع بعض بلا حدود زمنية ومكانية ويلتقون على مدار الساعة في ساحات الحوار الالكترونية، وأصبح من اللازم وضع اعتبار عال.

لهذا النسيج الاجتماعي الحيوي وأثر قطرة الماء التي تسقط في مكة المكرمة على ما يعانيه المسلم في كل مكان. من مسلّمات علم القيادة وصناعة القرار الإستراتيجي عملية التحليل البيئي المتكامل من الداخل والخارج. ولا تختلف لمدن في ذلك عن المنظمات الربحية والشركات في سوق الاقتصاد. فالمدن هي الموقع الجغرافي للتداولات والتي تصنع الموقع الالكتروني. وواجهة المدن العمرانية هي انعكاس لقيم المجتمع المحلي واهتماماته. ولن أتعرض في مقالي هذا للتخطيط العمراني المبني على قيم السوق الرأس مالية والتي تبناها المستثمر في مكة ولا يزال في محاولة لزيادة ربحه العالمي وتناسيا لكل محلية اقتصادية، فهذا ليس بمجالي. إنمّا يهمني في مقالي هذا الدور الاقتصادي الناشئ لغرفة مكة المكرمة التجارية وكيف يمكن أن يرسم بطريقة إستراتيجية يتدارك فيها ما هدمه الدور العمراني من قيم محلية وتطلعات عالمية!

التحليل الكامل

للتقييم المتكامل للوضع الحالي أشكال عديدة منها SWOT مختصر لكلمات أربع باللغة الإنجليزية وهي تتركز في نقاط القوة ونقاط الضعف مقابل الفرص والمخاطر. ومهما اختلفت المسميات أو المستويات التحليلية لوضع ما، تظل فكرة جمع المعلومات المتكاملة بطرق البحث العلمي المعروفة، وتكوين فرق عمل بحثية على عدد من المستويات لجمع المعلومات المتخصصة، ومن ثم التدقيق في المحاور الناتجة وتحليلها وتقديمها بشكل نتائج مسلمة مدعومة بالدليل القوي والمتماسك، تظل هي عمود لعملية صناعة القرار الناجح والحصول على نتائج إيجابية. نقلا عن قائد جامعة Hertfordshire ، في مقابلتي له شخصيا عام 2010 ، قبل تقاعده وبعد خدمة دامت 10 سنوات وضعت الجامعة في مركز أول جامعة ذات واجهة أعمال في بريطانيا أو بالإنجليزية ما يسمى ،The first business faced university in the UK ذلك الرجل القائد الفذ Sir TIm Willson ، والذي حاز على لقب الملكة لخدماته، أكد لي أنه في مراحل صناعة القرار الإستراتيجي الأولى وضع حوله علماء من كل فرع من فروع المعرفة في اجتماعاته المتكررة ليضمن المنظور المتعدد الأبعاد لكل تفصيل من تفاصيل القرار ولكي يكون القرار مشتركا وممتلكا من الكليات، وهذه هي النقطة الثانية المهمة في اتخاذ القرارالإستراتيجي، ألا وهي تملّك القرار من ذوي المصالح وعلى رأسهم في حالة مكة المكرمة سكانها المحليين المفكرين منهم والمؤرخين والعلماء والباحثين من جميع فروع المعرفة، ويتبعهم المسلمين في العالم علماؤهم وباحثيهم ومفكريهم من جميع فروع المعرفة مع اختلاف ألوانهم وجنسياتهم. نعم يحق لكل مسلم أن يدلي برأيه مستندا على دليل معتبر في كل ما يتخذ من قرار في مكة!
الآلية التي يمكن بها تحقيق مثل هذا النوع من البحث والتحليل على جميع الأصعدة ليس بمستحيل. ففي عام 2003 / 2004 شاركت في صناعة إستراتيجية المدينة المنورة تحت أشراف شركة ماليزية وبريطانية. مشاركتي الشخصية كانت على مستوى الحلقة النسائية والتي كانت صفوة عدد من ورش العمل واللقاءات التي شاركت فيها أعداد هائلة من سيدات المدينة. وكانت واحدة من 12 حلقة سارت بمحاذاة بعضها البعض بعد دراسات إستراتيجية مثل التي ذكرتها أعلاه خلال عدد من الأشهر. في تلك الورشة رأيت وشهدت من الحماس والتطلع والاندماج الفكري والاجتماعي ما لم أشهده من قبل. فقد كان النقل الصوتي والمرئي مباشرا بين الورش الموازية في أوقات محددة لجمع الخلاصات.
وخرجنا بوثيقة ومرئيات رائعة، ولست بصدد ما حدث بعد ذلك من حيث التنفيذ والمتابعة، والشاهد أن موضوع الدراسات البيئية والمتعددة وفرق العمل ليس بمستحيل وهو ما تقوم به الشركات الاستشارية العالمية والتي تستعين بها كبار الجامعات في بريطانيا على غرار ما تفعله الكثير من المنظمات الربحية والشركات العالمية الضخمة. صحيح يتم رصد ميزانية ورصد فرق عمل لاستخراج كنوز المعرفة الإنسانية من محبي مكة والمهتمين بتنميتها، ولكن ألا تستحق مكة، جعلني الله فداها، كل ذلك؟ ألا تستحق أن يضحى فيها أسوة بسيدي إبراهيم صلى الله عليه وسلم؟ أليست هي مقر الفداء والتضحيات؟

كمستشارة تطوير تنظيمي وباحثة في مجال القيادة الإستراتيجية وأدوارها أعتقد أن الغرفة التجارية بمكة يمكن أن تنتهج منهج البحث العلمي الصحيح مستنيرة في قراراتها المتعددة بدراسات عميقة ومنطقية وخطوات مدعومة بأدلة واستنتاجات بحثية لتثمر ويقطف ثمارها قاصدو مكة من كل فج عميق.

د. غادة عنقاوي

العدد 1 تجارة مكة صفحة 58-59

اترك تعليقاً

Shopping cart

0
image/svg+xml

No products in the cart.

Continue Shopping