تُعرّف التّربية على أنّها الحُصُول على مَعارِف مُثرية وتَكوين إتّجاهات نفسيّة وإكساب مهارات عمليّة. وتعرّف أيضا على أنّها التّدرّج بالمُرَبّى في مَراقي الكمال[1]. وموقف المُرَبّي كموقف الصّانع من المعدن، الذي يريد أنْ يُشكّلُهُ، كلّما كان على معرفة بطبيعته، كلّما سَهُلَ عليه تشكيله[2]. والتّدرّج المطلوب يأتي خطوة بخطوة والخطوات كلّها مدروسة ومحسوبة ويتخلّلها الرّفق والتّأنّي. والمراقي درجات يرتقي فيها الإنسان للأعلى والكمال هدف نهائي للتربية. والتّعريف الخاص بنا في التّربية: تزويد المربى بالمعارف والقيم والمهارات التي تمكّنه من إحداث تغيير في نظم المعيشة بحيث يحقّق النّمو الدّائم المُنسجم مع بيئته بمعناها الواسع بدون أن يتخلّى عن القيم والمبادئ التي تحكم هذه العلاقة[3]. والهدف من سياقة هذه التّعاريف أنّها تتّفق بدرجة كبيرة مع مفاهيم التّنمية الذّاتية التي دعت لها جميع الأديان وتدعو لها المفاهيم الحديثة في تطوير الذّات Self-Development ومؤخّرا الجدارة الأساسيّة في عالم القيادة وهي الوعي الذّاتيSelf-Awareness والتي تقود ليس فقط للقيادة الفعّالة للذّات وللآخرين ولفرق العمل والمنظّمات، وإنما هي أيضا جدراة تمكّن الموجّه من التّوجيه Coaching بفعالية بإستخدام الذّات كأداة وهو موضوع هذا المقال.
فإستخدام الذّات كأداة لا يتمّ ما لم تعرف هذه الذّات، نقاط قوّتها وضعفها، سماتها الشّخصيّة، مدى عمقها في العلوم والمعارف المختلفة، أفكارها ومشاعرها، وما ينتج عنها من سلوك، وما تحجم عنه من مخاوف وما تقبل إليه من رغبات، وكيف تتفاعل في مواقف معيّنة تحت ضغوط معيّنة، وماهي الإعتقادات والقيم التي تحرّكها، وكيف تحفّزها وتستنهضها للعمل، وماهي رؤيتها ورسالتها في الحياة وتلك البصمة التي ترغب أن تتركها في العالم.
كلّ هذا يأتي سابقا لإستخدام الذّات كأداه حسب أبحاث التطوير التنظيمي Organizational Development (OD) المختلفة[4] حيث يرى الكثير من الباحثين أن إستخدام الذّات كأداه في التّطوير التّنظيمي يتطلّب التّالي من الجدارات:
1- تطوير عادات التعلم المسّتمرّ:
- ومن ذلك الإستمرار في تطوير جدارات مختلفة تنمي عندك المرونة في الأدوار المتعدّدة التي تلعبها أثناء ممارستك للتّطوير التّنظيمي.
- تطوير علاقاتك مع الزملاء والمختصّين ممّا يساعدك على التّحقّق من تصوراتك من خلال المحادثات حول التّحدّيات والإستراتيجيات، وبمحاذاة القيم مع الممارسات.
- الرّغبة والسّعي الصّادق للحصول على الملاحظات الرّاجعة من عملائك وزملائك.
- بناء قاعدة معلوماتيّة بإستمرار حتّى لو لم يكن ذلك عاجلاً أو ملحّاً.
- إتّخاذ خطوات جريئة محسوبة للخروج من المعتاد في مجال التطبيق المهني.
2- معالجة قضايا القوّة والسّلطة التنظيمية
- الإقرار داخلياً والتّعامل مع المشاعر التي تنشأ من السّلطة التنظيمية وقوى الهرم التنظيمي، وإعادة معايرة الذّات.
- تطوير إستراتيجيّات لإدارة تفاعلات القوى داخلك وداخل الآخرين.
- تطوير عادات فعّالة للبدء والمحافظة على الحدود الشّخصية بينك وبين الآخرين من الزّملاء والعملاء.
- إستيضاح وإستبيان القيم الشّخصيّة الخاصّة بك في الحياة وتفعيل مفهوم الأهمّ ثم المهمّ[5].
3- بناء الوعي الحدسي بالمشاعر والذّات:
- دمج ماضيك الخاص بك وباسرتك ليكون مصدرا للقوة.
- تعرّف على مخاوفك ونقاطك العمياؤ ومناطق الرّاحة الخاصّة بك. إستخدم المشاعر كمعلومات تزودك بخيارات لما تقوم به من عمل تدخّلي في منظومة العميل.
- طوّر عادات مهمّة لإدارة القلق بالحصول على تصوّرات أدقّ وفعاليّة أكبر في التّدخّلات التنظيمية.
- إدراك قوة الحدس الدّاخلي في إدارة القرارات والمخاطر، حتى في وجه المعارضة الواضحة من الغير.
- واجه قلّة أو إنعدام فعاليتك مع بعض المشاريع والعملاء. كن شجاعاً في التّخلّي عن العملاء في مقابل مادّي عالي ومخاطرة شخصية أعلى.
4- إلتزم بالإهتمام بذاتك:
- رتّب جدولك لتضع وقت للتّأمّل وجمع شمل الذّات، وإعادة الشحن لمقدراتك الذّهنيّة والنّفسيّة.
- إحجز لنفسك موعدا في جدولك لرعاية ذاتك جسميا ونفسيا.
- أجسمنا وأشخاصنا مثلها مثل اي أداة تحتاج لصيانة دورية فماذا أعددت من باقة صيانة خاصّة بك؟
- تعرّف على فن الخلوة بالذّات والإرتباط الرّوحي والمعنوي بما حولك ونفسك.
تتعلّق كفائتك في مهنة التّوجيه Coaching أيضا بما يسمى بإستخدام الذّات كأداة بشكل أقوى من أي تخصّص آخر في مجالات التطوير المختلفة وبخاصة في توجيه فرق العمل. إستخدام الذّات كأداة في التوجيه، يعني أن تقف وتنظر في داخلك وتسأل نفسك ماذا أشعر الآن، وماذا أفكّر، قبل التّعاقد وقبول الفرصة للتّوجيه؟ فإن حكّ في نفسك شيء أو وجدت ما يَمْغُصُكَ، فلا تتجاهل هذا الإحساس فلعلّ وراءه رسالة خفيّة. وإذا لاحظت أمرا ما فلا تمرّره بدون أن تعود لداخلك فتستفتي قلبك.
إستخدام الذّات كأداة في التوجيه، يعني أن تقف وتنظر في داخلك وتسأل نفسك ماذا أشعر الآن، وماذا أفكّر، أثناء التّوجيه وبين الجلسات، وهل الخطوة التّالية ناتجة عن ذاك أو ذا؟ وهل هي في مصلحة الفريق ( العميل)؟ ولعلّك تصمت وتراجع نفسك طويلا وربما تجد أنّ صمتك يرسل رسالة أقوى وأنت بين الأعضاء في الجلسة أو يتيح الفرصة لظهور مالم يكن ليظهر وأنت تتحدّث وتسأل الآخرين.
إستخدام الذّات كأداة في التوجيه، يعني أن تقف وتنظر في داخلك وتسأل نفسك ماذا أشعر الآن، وماذا أفكّر، بعد إنتهاء الجلسات وتفحص نواياك ومشاعرك وتعيد الاثر لنفسك، وتستكشف المحادثة من عدد من الزّوايا وتستمع لصوتك الدّاخلي.
لا يمكن أن أشرح لك أكثر ماذا يعني إستخدام الذّات كأداة ولكن عليك أن تجرّب أن تخطو في المجهول ومالا تعرفه أو معتاد عليه من الإستبطان لما يدور حولك بإستمرار، حتى يصبح ذلك عادة عندك فتؤتى الحكمة بسبب الأناة والحُلُم، وهما خُلُقان وصّى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ومنهما تصل إلى “ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتيَ خيراً كثيراً”[6].
وأخيراً إذا كنت ترغب في الوصول لهذه الدرجة من الوعي واليقظة للإحساس الداخلي وما يدور في خاطرك وتعترضك معيقات وتحدّيات فلا تتردّد في التّواصل معنا في أكاديمية المواهب العالمية لنضعك مع أفضل برامجنا في التعلّم الذّاتي من خلال برنامج وجّه أفكارك ومشاعرك. أو بالحصول على الكتاب باللغتين العربية والإنجليزية.
[1] مقتبس من كتابات ابن القيّم.
[2] مقدداد يالجن (2002) التربية الإسلاميّة والطبيعة الإنسانيّة، عالم الكتب السّعودية، ص8.
[3] غادة عنقاي، رسالة ماجستير، بحث عملي في التربية المستدامة، ص7.
[4] 2012 Mee-Yan Cheung-Judge -The Self as an Instrument- a Cornerstone for the Future OD, OD practitioner, VOL. 33, 3.
[5] ستيفن كوفي (1995)، الأهمّ ثم المهمّ First Things First.
[6] سورة البقرة – الآية 269