الرؤية في القيادة النيوكارزمية

لكل قائد عادات تفكير يستقيها من خبراته وتجاربه في الحياة. ويعيش الكثير من القادة أحلام قيادتهم مبنية على تطلعات عشرات من السنين التي عملوا فيها بجد وإجتهاد للوصول لما وصلوا إليه من قيادة. القيادة في جملتها تتطلب وجود أتباع وهدف يسيرون نحوه تحت توجيه القائد. وتنصبّ الدراسات القيادية حول ميزات القائد التي تؤهله لهذه المهمة العظيمة وهي “السّير بمجموعة من الناس نحو غاية ما” . وهناك عدد من الأسئلة التي تنشأ من هذا التعريف فمثلا: ـ

المجموعة الأولى: ما هي الغاية؟ ومن يحددها؟ وكيف يتفق الجميع عليها؟

    المجموعة الثانية: من هم هؤلاء الناس؟ وكيف تكونت المجموعة؟ ماذا يجمعهم؟ وكيف اتفقوا على تنصيب لقائد؟

   المجموعة الثالثة: ما الذي جعل القائد أحق بالاتباع؟ ماذا يميّزه؟ لماذا يتبعونه؟ وما هي أدواته التي يسير بالناس بها؟ ما هي استراتيجيته وما الذي سيصنعه مختلفا؟

في المجموعة الثالثة من الأسئلة تقع أبحاث القيادة وتنظيراتها. ولكن المجموعة الأولى مهمّة فهي تحدد مستوى القيادة الذي نحن بصدده. فرحلة في البر للمتعة والصيد ليست كتنظيم يعمل فيه عدد كبير من الناس وتعتمد حياتهم على فشل التنظيم أو تحقيقه لأهدافه. وفي المجموعة الأولى وقفة مهمّة لها علاقة بالثالثة وهي ما الذي يملكه هذا القائد من تصوّر يسمح له بالوصول بالمجموعة للغاية؟ والتصوّر هنا في حقيقته عبارة عن صورة للغاية واضحة مكتملة ولها معاني يمكن التعبير عنها ووصفها وبحثها مع المجموعة. وهنا يأتي دور المجموعة الثانية من الأسئلة والتي تتعلق بالناس التّابعين ومدى إدراكهم لأهمية الصورة وهي يملكون المؤهلات التي تسمح لهم بأن يكونوا تابعين؟

ولكل مجموعة أهمية، ويهمني في مقالي هذا المجموعة الأولى المتعلقة بالقائد وبخاصة النيوكارزمي، ويهمني في هذه المجموعة التصوّر الذّهني الخاص بالقائد النيوكارزمي حول الحياة. فالصّورة التي يملكها القائد النيوكارزمي تنبع من خبراته ومعلوماته وتجاربه ومقدراته الخاصة به بغضّ النظر عن كونه قائدا أم لا. وهي أوّل ما يؤهّله للقيادة وبدونها سيكون عديم الفائدة ومجرّد أداة لتنفيذ رغبات الغير من صانعي النّظام أو محرّكيه. ومن هنا انطلق بعض الباحثين يفرّق بين القيادة التّحويليّة والقيادة التّحوّليّة. الأولى تعني التّحويل من مكان لمكان أو حالة لحالة مشابهه بدون تغيير في أسلوب القيادة وإنما فقط تغيير مسمّيات شكلي يحافظ على الوضع الحالي بما فيه من منافع لذوي المصالح في ذلك. بمعنى أن التغيير ليس تبديلا كاملا. وأمّا القيادة التحوّلية فتتطلّب إبداعا لحلول جديدة تقضي بإلغاء القديمة أو الإستغناء عنها مما قد يخلّ بمنافع ذوي المصالح وينقل المجموعة أو التنظيم نقلة نوعية كاملة. فالتّحويل هو مثل تحويل العملات يحافظ على القيمة القديمة وإنما المتغير فقط العملة الشكلية أو هو تبادل منافع بين شكل وآخر فينتقل المُنتفع به من حالة إلى أخرى بدون أن تتغير قيمته. وهناك أبعاد أخرى للتفريق نذكرها في موضعها. والذي يعنينا هنا أن الرؤية ليست تصوّرا نابعا من دراسة وضع حالي ووضع أفضل الحلول لنقلة نوعيّة في الوضع الحالي كما يظن الكثير من القادة، وإن كان هذا أحد أدوار القيادة الفعّالة وسنتطرّق له في موضعه. أمّا الرؤية التي نقصدها هنا والتي يغفل عنها الكثيرمن القادة، هي الرؤية العامّة المظليّة النبيلة المتعلقة بحياة القائد النيوكارزمي عامّة

ولنقرّب ذلك للأذهان، لنفترض أن مدرسة ما تقوم بإختيار مدير لها، وفقا لمعاير معينة. تقدّم اثنان في عليّة الإختيار وعند المقابلات الشخصية ذكر الأول أن حرصه على أن يكون مديرا هو “رغبته الخاصّة في تحسين مستوى التعليم، بحيث يصبح كل طالب في مدرسته متميزا في شيء ما”. ثم دخل بعد ذلك للمقابلة المدير الثاني وذكر في طيّات الكلام “إستعداده التام لتولي المهام المناطة به وحرصه على زيادة عدد الطلبة بفتح فصول جديدة واختيار المعلمين ذوي التأهيل المناسب لتكون سمعة المدرسة في مستوى المزودين المتميزين في قطاع التعليم الخاص”. يا ترى هل ترى الفرق؟ مع العلم أنّ كلا المتقدميْن تفوّق في مؤهّلاته على المجموعة الاولى والثانية في الإختيار. فأيهما صاحب الرؤية النبيلة؟ وأيهما صاحب القيادة التحوّليّة؟ وأيّهما ينبغي على قيادة المدرسة إختياره؟ سأترك الإجابة للقارئ تحدّيا مني لفهمه وعمق إدراكه.

يرتبط هذا الموضوع، موضوع الرؤية بما بعده من المواصفات الشخصية التي تؤهل صاحبها لسلوكيات قيادية خارقة للعادة  تصنع تغييرات جذرية قوية. ونظّر الباحثين أن من يتبنّى القيادة النيوكارزمية التحوّليّة لابد وأن يكون مؤثرا، وأن هذا الدافع – الإيثار- هو الذي يحدد الغاية النبيلة التي يسعى من أجلها والتي تحتّم على القائد التّفهم  للآخرين في مقدرة أخرى بل إن كوزس وبونسر في نموذجهما المتكامل للسلوك القيادي عدّا تصوّر الفرص المستقبلية على أنه الثالث في السلوك القيادي والذي يؤدي إلى سلوك “إلهام الرؤية المشتركة” . ويضع ستيفن كوفي الرؤية في أساسيات القيادة الذاتيّة قبل أن يتصدّر القائد القيادة للآخرين في مجال العلاقات المباشرة أو القيادة الإدارية أو الإستراتيجية، حيث يضع إمتلاك رؤية خاصة في العادة الثانية من العادات السبع للناس ذوي الفعّالية العالية في كتابه الشهير

والرؤية القيادية للقائد النيوكارزمي هي تصوّر شامل متكامل عميق لحياة القائد الخاصّة والعامّة، تسمح له بتكوين تصوّرات جزئية ملهمة خارقة للمعتاد.

د. غادةعنقاوي

   أولا: التصورهو صورة مستقبلية لما لم تحدث بعد في ذهن القائد ترسمها مخيّلته وتعبّر عنها كلماته وسلوكيّاته –

  ثانيا: شامل لكل جوانب حياته الفيزيائية المادية، الإجتماعية العاطفية، النفسية الفكرية، المعنوية الروحية

  ثالثا: متكامل في انسجامه بين الجوانب فلا تناقض ولا تعارض

رابعا: يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان

خامسا: عميق في أبعاده بحيث يصف تفاصيل متعددة الأبعاد

   سادسا: الحياة الخاصة تصف أفكار ومشاعر وسلوكيات القائد في وحدته من جانب وفي علاقاته الخاصة في أسرته والمقربين منه كزوجته وأبنائه ووالديه

   سابعا: الحياة العامة تصف أفكاره ومشاعره وسلوكياته في تفاعله مع العالم لحظة وجوده في حيّز المجموعة

  ثامنا: التصورات الجزئية هي تلك التي تعني بجواب محددة في الحياة العامة مثل رؤيته في عمله ورؤيته في مجتمعه…إلخ

 تاسعا: ملهمة تصنع عنده دافع للحركة والأمل في المستقبل

       عاشرا: خارقا للعادة من حيث نوعية التصورات الجزئية

النقطتين التاسعة والعاشرة هي محور الرؤية المشتركة في نموذج القيادة النيوكارزمية والتي هي دور سّلوكي قيادي نيوكارزمي في الحياة العامة وسنتطرق لها في موضعها بالتفصيل، وذكرتها هنا لأبني بين الرؤية الخاصة والمشتركة جسر تواصل في ذهن القارئ. ولكي يحصل الإدراك بأهمية وجود رؤية خاصة قبل أن يتصدر القائد للرؤية المشتركة في قيادته كما ذكرنا في بداية المقال. تصدّر القائد للرؤية المشتركة بدون رؤية خاصة يؤدي إلى مضارّ منها

    افتقار القائد للثقة في ذاته وفي مقدراته

    تسرّب الأفكار السلبية والمحبطات والمعيقات المعنوية والمادية للقا

    ردود الأفعال السريعة في السلوكيات اليومية

   تردد القائد في الرأي وتذبذبه في صناعة القرار الإستراتيجي

 تبعية القائد وخضوعه لضغط المجموعة في حالة الطوارئ والأزمات معرّضا لهم للهلاك

  إتباع القائد للشهوات والمغريات وبيعه للقيم المتفق عليها من أجل منفعة عارضة او شخصية

   محافظة القائد على الوضع المعتاد من أجل مصلحته لا مصلحة المجموعة

  رفض القائد لفرص التطوير ولتنمية القيادات الأخرى بسبب مشاعره السلبية تجاه نفسه وتجاه الآخرين ومنها خوف الفقد للمنصب أو المنافع

   لجوء القائد إلى القوة والسلطة لتسيير المجموعة وتحقيق النظام بالعقوبات والحوافز مما ينشر الفساد التنظيمي

   إنسحاب القائد وتقوقعه في معزل البرج العاجي بعيدا عن الآخرين مما يدمّر القيادة والمجموعة

مما سبق يتبين لنا أهمية أن يعمل القائد النّيوكارزمي أولا على تطوير مقدرة رسم الرؤية الخاصة والتي يؤكد ستيفن كوفي في كتابه على أنها لا تُخلق وإنما تُكتشف، وأن كل قائد يمتلك رؤية ولكن عليه أن يبحث عنها في أعماق نفسه ويحدد معالمها في رحلة يصحبه فيها موجّه قيادي متخصّص ومؤّهل و بإستخدام طرق وأدوات معتمدة في علم التّوجيه ، وخاصة إذا كان ينوي أن يتولى منصبا قياديا أو هو الآن في منصب قيادي ومسؤول من منظّمته ومجتمعه أن يضل بهم الطريق أو ينحى عن القيادة الأخلاقية لتقصير منه في تحديد معالم رؤيته الخاصة والتنظيمية.

وقبل أن اختم مقالي هذا حول الرؤية القيادية النيوكارزمية الخاصة ينبغي أن أسوق مثالا لها في حياة سيد البشر والأسوة الحسنة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث هداه الله لهذه الرؤية في حديث إلهي شخصي مباشر في قوله تعالى له: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” ، لتبقى هذه الرؤية محركا لكل قائد ودليلا لكل باحث عن صفات وسلوك القيادة الحقّة.

د. غادة عنقاوي

اترك تعليقاً

Shopping cart

0
image/svg+xml

No products in the cart.

Continue Shopping